العدل الغائب في سرديات السودان
العدل الغائب في سرديات السودان
في كل مرة يُفتح فيها الحديث عن السودان يخرج صوت ما ليكرر الاتهام ذاته:
الإمارات تتدخل.
يتردد هذا الكلام وكأنه حقيقة لا تحتاج إلى برهان وكأن مجرد تكراره يكفي ليصبح يقيناً لكن حين نقترب من هذا السؤال قليلاً نكتشف أنه ليس بحثاً عن الحقيقة بقدر ما هو محاولة لفرض رواية جاهزة، تُقدم على أنها واقع لا يقبل النقاش.
ما يُقال عن (أفعال الإمارات في السودان) لا يستند إلى حكم قضائي دولي ولا إلى قرار صادر من مجلس الأمن ولا إلى إدانة من أي جهة مخوّلة في القانون الدولي..كل ما في الأمر أن البعض يخلط بين الاتهام والإدانة وبين الظن والحقيقة وبين ما يُكتب في الصحف والحسابات المعادية وما يُثبت في المحاكم..القانون لايعمل بهذه الطريقة ولا يكتفي بما يتداوله الناس في وسائل التواصل..هناك فرق كبير بين رأي يُقال في لحظة غضب وبين حكم يصدر بعد تحقيقات وأدلة وشهادات.
وإذا كان معيار البعض هو التقارير الإعلامية، فبهذا المنطق يمكن اتهام أي دولة في العالم. فالإعلام بطبيعته يطرح أسئلة ويكشف احتمالات ويعرض تسريبات لكنه لا يصدر أحكاماً.. الصحفي ليس قاضياً والمقال ليس وثيقة إدانة والتسريب ليس دليلاً ومع ذلك نجد من يتعامل مع هذه المواد وكأنها حقائق نهائية لاتقبل المراجعة ولا التمحيص.
لكن المسألة الأعمق ليست هنا..فالسودان يعيش حرباً داخلية معقدة لايمكن اختزالها في اسم دولة واحدة مهما حاول البعض..الصراع بين قوى سودانية مسلحة لكل طرف فيها أخطاؤه وانتهاكاته وكل طرف يملك روايته الخاصة. المنظمات الدولية نفسها تتحدث عن نزاع متعدد الأطراف لاعن جهة خارجية تحرك كل الخيوط. تحويل مأساة بهذا الحجم إلى (مؤامرة خارجية) هو ظلم للسودانيين قبل أن يكون ظلماً للإمارات. إنه تبسيط مخلّ يختصر تاريخاً طويلاً من التوترات والانقسامات في جملة واحدة.
العدل لايتحقق بالصوت المرتفع ولابالاتهامات التي تُطلق بلا دليل ولا بتحويل معاناة السودانيين إلى مادة للمزايدات..العدل يحتاج إلى دليل مثبت وإلى نزاهة في الطرح وإلى استعداد للاعتراف بأن الحقيقة قد تكون معقدة وأن الألم لا يجوز أن يُستخدم كسلاح.
قال الله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ وهذه الآية وحدها كافية لتذكيرنا بأن القسط لا يُجزّأ وأن الهوى لايصنع عدالة.
من يريد الحقيقة يعرف طريقها المحاكم..لجان التحقيق الدولية..الوثائق الرسمية.
أما من يكتفي بإعادة تدوير روايات بلا أحكام، ويحوّل الاتهام إلى أداة للتحريض وتوتير العلاقات فهو لايبحث عن عدالة بل عن انتصار في معركة كلامية.
النقد حق مشروع بل ضرورة..لكن اتهام الدول دون إدانة قانونية ليس حقاً بل تجاوزاً على القانون نفسه..والعدل لايُقاس بمن يصرخ أكثر بل بمن يملك الدليل الأقوى..والسودان قبل كل شيء يستحق أن يُنظر إلى أزمته بعيون صادقة
لابعيون تبحث عن شماعة تعلق عليها كل شيء.



