سعود الفيصل..حكمة تمشي بيننا

سعود الفيصل..حكمة تمشي بيننا

في مثل هذه الأيام، تستعيد الذاكرة صورة رجل لم يكن مجرد وزير خارجية، بل كان رمزاً للدبلوماسية، وصوتاً للعقل، ووجهاً مشرفاً للوطن في المحافل الدولية.
إنه صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- الذي وإن غاب بجسده، إلا أنه لم يغب عن وجدان السعوديين والعرب والمسلمين، فقد ترك وراءه إرثاً خالداً لايُنسى، وسيرةً تُروى للأجيال، ومواقف لاتُمحى من سجلات التاريخ.
أربعون عاماً من العمل المتواصل والعطاء الكبير أمضاها الأمير سعود الفيصل في خدمة السياسة الخارجية السعودية، مدافعاً عن قضايا الأمة، وممثلاً للمملكة بكل شرف ورفعة، خلال عهود أربعة ملوك..وعلى امتداد تلك العقود، كان حجر الزاوية في السياسة الخارجية، وصوت المملكة الثابت، ووجهها الذي يظل مهيباً وصادقاً في كل ظرف وفي كل منعطف.
لم يكن الأمير سعود الفيصل مجرد وزير خارجية، بل كان حكيم الدبلوماسية العربية والإسلامية..رجلاً لايعرف الملل ولا السكون، يتحرك بثبات واتزان، يتحدث بوعي وحكمة، ويصمت حين يكون الصمت أبلغ أثراً من الكلمات. حضوره في المؤتمرات الدولية لم يكن ليمثل المملكة فحسب، بل كان يمثل العقل العربي بأسره، والضمير الإسلامي في أسمى معانيه، والحكمة السياسية التي لايتسع لها كتاب، بل يسطرها التاريخ حيّة في صورة رجل يمشي بين الناس بكاريزما الحكمة والحنكة.
كان الامير سعود الفيصل -رحمه الله- شخصية فريدة تمزج بين الوقار والبساطة، وبين الحزم والهدوء، وبين الذكاء والتواضع..رجل دولة حقيقي بكل تفاصيل الكلمة، لاتهدأ عزيمته، ولا يأخذ الراحة ما دام هناك ملف يحتاج إلى موقف حاسم، أو قضية عربية تستدعي الدفاع، أو أزمة دولية تحتاج إلى معالجة متوازنة ودقيقة.
لقد كان (الفيصل) صوتاً صادقاً لوطنه،لايساوم على الحق، ولايتردد في قول الحقيقة، ولا يتأخر عن أداء الواجب مهما بلغت صعوبة التحديات أو جسامة الضغوط.
وحين غاب الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- عن الدنيا، لم يغب اسمه، ولم تُطوَ صفحته، بل بقي حاضراً بإرثه الكبير في ذاكرة الوطن والأمة. بقيت مواقفه شاهدة على مرحلة نضج سياسي رفيع وعلى رجل كان في مقدمة الصفوف، وفي عمق القرار الدولي، راسخاً في المبدأ، ثابتاً في الانتماء..ترك خلفه مدرسة للدبلوماسية لاتعتمد على الشعارات، بل على الفهم العميق، والتحليل الرصين، والتوازن الدقيق بين الثوابت والمتغيرات.
لقد كان الأمير سعود الفيصل رجل دولة وطني بامتياز، مخلصاً في دفاعه عن قضايا الأمة العربية والإسلامية، مدافعاً عن وطنه في كل محفل بكل جرأة وبسالة. لم يسعَ وراء الأضواء، بل جعل من الحقيقة هدفه الأول، ومن خدمة وطنه غايته الأسمى..حضوره السياسي لم يكن مجرد تمثيل وظيفي، بل كان تجسيداً لرؤية واضحة، ورسالة صادقة، وانتماء راسخ لايتزعزع..كان يؤمن أن للمملكة دوراً ريادياً، وأن لصوتها مكاناً مسموعاً وفاعلاً، وأن قضايا العرب والمسلمين ليست على الهامش، بل في صميم وأولوية السياسة الخارجية السعودية.

وفي ذكرى رحيله، لانملك إلا أن نسترجع تلك اللحظات التي كان فيها الأمير سعود الفيصل حاضراً ومتحدثاً حين يقتضي الموقف، صامتاً عندما يكون الصمت أبلغ، حازماً عندما تفرض الظروف الحسم..نترحم عليه وندعو له بالرحمة والمغفرة، ونفتخر أنه كان واحداً من أبناء هذه الأرض الطيبة، ومن رجالاتها الذين رفعوا رايتها، ودافعوا عن مكانتها، وحملوا همّها بصدق ونبل.
رحم الله الأمير سعود الفيصل، وأسكنه فسيح جناته.
لقد غادرنا جسداً، لكنه بقي بيننا بذكراه، وبمدرسته، وبصوته الذي لايزال يتردد في المحافل كلما ذُكرت الدبلوماسية الحكيمة..صوت الحق، وصوت العقل، وحكمة تمشي بيننا.

فهد الحربي

مدون وناشط سياسي واجتماعي (من قال أن الحب لايليق لهذا الزمان؟ الحب يليق بكل زمان ومكان لكنه لايليق بكل أنسان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *