سقوط رموز التلون الديني

سقوط رموز التلون الديني

في زمن كانت الأصوات ترتفع لتضيء الطريق، ارتفعت أيضاً أصوات أخرى لتغلقه..ظهر خطاب متشدد يستند إلى الدين، لكنه كان لايهدف إلى الهداية، بل إلى الحظر والمنع وتجريم كل مايمت للحياة بصلة أو يُشكك فيه..المرأة كانت تُحاصر باسم الفضيلة، والتقنية تُنبذ وكأنها رجس من عمل الشيطان، والسياحة تُصور كخيانة للهوية. حتى أبسط تفاصيل الحياة اليومية، كإرتداء البنطال أو تناول السلطة، خضعت لمجهر الفتوى، وكأن الدين قد اختزل في قائمة لاتنتهي من المحظورات.

لكن المشهد لم يبق على حاله..ذات الوجوه التي كانت تحذر من التلفزيون، أصبحت تتصدر شاشاته..من كانوا يرفضون السفر أصبحوا دعاةً له، بل ومروجين لوجهات كانت بالأمس القريب تُعتبر محرمة.
هذا التحول لم يكن مجرد مراجعة فكرية، بل انقلاب كامل في الإتجاه، دون تفسير منطقي أو تدرج معرفي، بدا وكأن المبادئ تُبدّل كما تُبدّل الأزياء بحسب المواسم والمصالح.

الأكثر دهشة لم يكن هذا التحول فحسب، بل الطريقة التي أُعيد بها تعريف الالتزام..أصبح الملتزم هو من يصفق لسياسات معينة، ويبارك تحالفات إعلامية وسياسية، حتى وإن تناقضت مع ماكان يدافع عنه بالأمس..أما من بقي على نهجه، محباً لوطنه ومتمسكا بعلمائه، فقد نُبذ واتهم وشوّهت صورته، كأن الثبات على المبدأ أصبح جريمة.

لكن لم يطل الأمر حتى افتُضح كل شيء وانكشفت الأقنعة، وسقطت أوراق التوت عن وجوه طالما ادعت الورع والتقوى..لم يكن التشدد يوماً نابعاً من قناعة راسخة، ولا الانفتاح المفاجئ وليد فهم عميق أو مراجعة صادقة. بل ثبت للجميع أن

ماكان يُقدم على أنه التزام ديني لم يكن سوى ستار يدار به المشهد وفق المصالح، وأن التحولات لم تكن إلا انعكاساً لإنتهازية مكشوفة.

اليوم، لم يعد الناس بحاجة إلى تحليل النوايا، فقد باتت مكشوفة على الملأ..الجماهير التي كانت تصغي إليهم باتت تدرك أن تلك الأصوات لم تكن تهدف للإصلاح، بل للسيطرة، وأن الدين كان مجرد وسيلة لاغاية..وما كان يُقال همساً صار يُقال جهراً..هؤلاء لم يكونوا أمناء على الدين، بل تجار في سوق الفتاوى، يبدلون مواقفهم كما تُبدل الأزياء، ويربّون الباطل بثوب الحق كلما دعت الحاجة.

وهكذا، لم يعد الزمن وحده كفيلاً بكشف النوايا، بل أصبح الناس هم من يفضحونها ويكشفون زيفها، ويضعون كل متلون في حجمه الحقيقي. لقد انتهى زمن التقديس الأعمى، وبدأ زمن الوعي، حيث لامكان لمن يتاجر بالدين، ولا لمن يلبس عباءة الورع ليخفي بها أطماعه.

فهد الحربي

مدون وناشط سياسي واجتماعي (من قال أن الحب لايليق لهذا الزمان؟ الحب يليق بكل زمان ومكان لكنه لايليق بكل أنسان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *