مدائن صالح ضمن الرؤية

مدائن صالح ضمن الرؤية

في عمق الصحراء السعودية، حيث تتعانق الرمال مع الصخور، تقف مدائن صالح شامخة كأنها تحرس ذاكرة الزمن.
هذه المدينة التي كانت تُعرف باسم الحِجر ليست مجرد أطلال صامتة، بل رواية محفورة في الجبال تروي قصة حضارة الأنباط الذين عاشوا فيها وتركوا بصماتهم على واجهات الصخور، وكأنهم أرادوا أن يتحدثوا إلى المستقبل بلغتهم الخاصة.​
مدائن صالح ليست وليدة لحظة عابرة في التاريخ، بل نتاج تراكمات حضارية بدأت منذ آلاف السنين..كانت محطة تجارية مهمة على طريق البخور تربط بين جنوب الجزيرة العربية وبلاد الشام..الأنباط الذين اشتهروا بقدرتهم الفريدة على نحت الصخور جعلوا من هذه المدينة تحفة معمارية، حيث تنتشر المدافن المزخرفة والمنحوتات الدقيقة التي تعكس ذوقاً فنياً راقياً وتقديراً عميقاً للموت والحياة.​
رغم أن مدائن صالح ظلت لفترة طويلة بعيدة عن الأضواء، إلا أن التحولات التي شهدتها مملكتنا الحبيبة في السنوات الأخيرة أعادت إليها الحياة..لم يكن ذلك مجرد صدفة بل نتيجة رؤية استراتيجية يقودها سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، الذي أدرك أن التراث ليس عبئاً على الحاضر بل رافعة للمستقبل.
من خلال رؤية السعودية 2030 تم تسليط الضوء على مدائن صالح كجزء من مشروع ضخم لإحياء التراث الوطني وتحويله إلى مصدر جذب ثقافي وسياحي.​
لم يتعامل سموه مع مدائن صالح كموقع أثري فحسب، بل كرمز للهوية السعودية المتجذرة في التاريخ تحت إشرافه تم تأسيس الهيئة الملكية لمحافظة العلا التي تتولى مهمة تطوير المنطقة بشكل متكامل مع الحفاظ على طابعها التاريخي الفريد..هذا التوجه لم يكن مجرد تطوير عمراني، بل محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين السعوديين وماضيهم، وتعزيز الشعور بالفخر الوطني من خلال استكشاف الجذور الحضارية العميقة.​
الزائر لمدائن صالح اليوم لايواجه أطلالاً صامتة بل يدخل في تجربة غنية تتداخل فيها الأصالة مع الحداثة..تم إنشاء مسارات سياحية مدروسة ومراكز للزوار تقدم معلومات تفصيلية عن تاريخ الموقع، إضافة إلى فعاليات ثقافية وفنية تقام في قلب الصحراء حيث تتناغم الموسيقى مع سكون الطبيعة..كل ذلك يتم ضمن إطار يحترم البيئة ويصون التراث دون أن يخل بجماليات المكان أو يفرض عليه طابعاً تجارياً مبتذلاً.​
التحول الذي شهدته مدائن صالح يعكس فلسفة جديدة في التعامل مع التراث تقوم على التوازن بين الحماية والتفعيل بدلاً من أن تبقى المواقع الأثرية مغلقة في وجه الجمهور أصبحت منابر للتعليم والتأمل ومراكز للحوار بين الماضي والحاضر..هذا التوجه يعكس أيضاً رغبة المملكة في الانفتاح على العالم وتقديم نفسها كدولة تمتلك إرثاً حضارياً غنياً قادراً على الإسهام في الثقافة الإنسانية.​
من اللافت أن مدائن صالح أصبحت أيضاً موضوعاً للبحث العلمي، حيث تتعاون المملكة مع مؤسسات دولية لدراسة الموقع بشكل أعمق وفهم تفاصيل الحياة التي كانت تدور فيه..هذه الدراسات لاتقتصر على الجوانب الأثرية بل تمتد إلى الجوانب البيئية والجغرافية مما يفتح آفاقاً جديدة لفهم العلاقة بين الإنسان والمكان عبر العصور.​
الاهتمام المتزايد بمدائن صالح يعكس أيضاً تحولاً في النظرة العامة للثقافة في السعودية بعد أن كانت الثقافة تُختزل في مظاهر محدودة، أصبحت اليوم تشمل التراث والفنون والتاريخ والهوية..هذا التحول لايمكن فصله عن الدور القيادي للأمير محمد بن سلمان الذي يرى في الثقافة قوة ناعمة قادرة على بناء جسور بين الشعوب وتعزيز مكانة المملكة في العالم.​
مدائن صالح التي سُجلت في قائمة التراث العالمي عام 2008 كأول موقع سعودي ينضم إلى هذه القائمة المرموقة، ليست مجرد موقع أثري بل مرآة تعكس طموحات وطن يسعى إلى أن يكون حاضراً في المستقبل دون أن يتخلى عن ماضيه..إنها قصة مدينة عادت لتتحدث لابل لتلهم، في زمن تتسارع فيه الخطى نحو التغيير وتبحث فيه الشعوب عن جذورها لتبني عليها مستقبلاً أكثر إشراقاً.​

فهد الحربي

مدون وناشط سياسي واجتماعي (من قال أن الحب لايليق لهذا الزمان؟ الحب يليق بكل زمان ومكان لكنه لايليق بكل أنسان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *