عقل متشدد يرفض الواقع
عقل متشدد يرفض الواقع

حين يُطرح الخطاب المتشدد في أي ساحة فكرية أو اجتماعية، فإنه لايمكن التعامل معه كوجهة نظر قابلة للنقاش أو كخيار فكري ضمن مساحة التعددية، بل كجدار صلد مغلق، يرفض الاقتراب، ويعجز عن التفاعل مع الواقع بمرونة ومنطق. هذا الخطاب لاينبع من عقل متزن أو من رؤية متأملة، بل من توتر داخلي عميق ومن رغبة دفينة في السيطرة على الآخر، لابالحجة والإقناع، بل بالمنع والتحريم والتضييق.
المتشدد لايبحث عن الحقيقة، بل عن الهيمنة..لايسعى إلى الفهم، بل إلى فرض قناعاته مهما كانت سطحية أو متناقضة.فالخطاب المتشدد لايفرق بين الإنسان ككائن عاقل ميزه الله بالعقل والإرادة، وبين الحيوان الذي تحكمه الغرائز.. بل يقوم عن عمد بخلط الاثنين، حين يريد أن يبرر هيمنة الذكر على الأنثى، فيستحضر صوراً من عالم الحيوان ليؤكد أن الرجل يجب أن يكون هو القائد والمسيطر، متجاهلاً أن العقل هو مايميز الإنسان عن سائر المخلوقات..مثل هذا التبرير الساذج لايكشف عن قوة حجة، بل يفضح ضعفها، ويكشف خللاً عميقاً في فهم الطبيعة البشرية، ورغبة صارخة في إلغاء العقل لصالح الغريزة، على الرغم من أن تكريم الإنسان في جوهره قائم على العقل.
وعندما يتحدث المتشدد عن المرأة، فإنه لايراها ككائن مستقل له وجود وحقوق، بل كشيء ثمين يجب الحفاظ عليه من الضياع أو السرقة، كجوهرة جامدة منزوعـة الإرادة والعقل. في خطابه..لاتتحرك المرأة إلا بأمر، ولاتتحدث إلا بتوجيه، ولاتعيش إلا في ظل رجل، حتى لو كان طفلاً صغيراً! هكذا تتحول المرأة في ذهنه من إنسانة فاعلة إلى مجرد وسيلة، وظيفتها الأساسية أن تخدم الرجل وتنتج أبناء ذكوراً وتربيهم ليكونوا امتداداً لسلطته لا لشخصيتها أو لكرامتها.
المتشدد يحصر قيمة المرأة في (مصنع للرجال) لا (مصنع للإنسان) فإذا أنجبت ذكراً مجّدها، وإذا أنجبت أنثى اعتبر حضورها بلا قيمة تُذكر.
هذه النظرة المهينة لا تُكرم المرأة، بل تُحط من شأنها وتجعلها أداة في مشروع ذكوري ضيق لايعترف بإنسانيتها..وهو في ذات الوقت يريد للمرأة أن تظل معزولة عن المجتمع، محرومة من أدوات الحياة، ثم يطالبها في النهاية أن تربي جيلاً واعياً ناضجاً يفهم الحياة!
فكيف يمكن لمن عُزلت عن المجتمع أن تربي أجيالاً تعيه؟
وكيف لمن مُنعت من خوض التجارب أن تمنحها لأطفالها؟
ذلك التناقض يفضح خللاً عميقاً في منطق التشدد، حيث يطالب المرأة بأن تكون قوية وواعية، بينما يحكم عليها بالضعف والعاطفية ويمنع عنها كل أسباب القوة والوعي..يضعها في السجن الاجتماعي، ثم يطلب منها أن تفهم العالم، وهو تناقض صارخ دليل على الرغبة في السيطرة لا في الإصلاح.
ولا يتوقف الأمر هنا..فالمتشدد يردد أن الإسلام أعطى المرأة حقوقاً لاتضاهيها الشرائع، لكنه في الوقت ذاته يؤكد أن الإسلام لم يُطبق كما ينبغي في المجتمعات..فإذا كان الإسلام لم يُطبق تطبيقاً صحيحاً، فكيف يزعم أن المرأة قد نالت تلك الحقوق؟
هذا التناقض لايرهقه ولايزعجه، لأنه لايبحث أصلاً عن الحقيقة، بل عن أي ذريعة تُبقيه في موقع المتحكم والمهيمن.
أما نظرته للدولة فهي الأكثر تناقضاً.. فبينما يثق بها في كل مناحي الحياة، من الأمن إلى الاقتصاد والتعليم، ينقلب عليها فجأة حين تتعلق القضية بالمرأة..فإذا قررت الدولة فتح باب للعمل أو التعليم أو المشاركة للمرأة، اتهمها بالتفريط والخيانة والانحراف..هذه الازدواجية لاتوجد إلا في عقلية التشدد، التي تتغذى على التناقض، ولا تعرف الاتساق ولا التوازن.
وإذا طُرحت حلول عملية لمشكلات المرأة، فإن المتشدد يهرب من المواجهة بتغيير الموضوع أو بإلقاء المسؤولية على ظروف أخرى، ليحول النقاش إلى قضية مختلفة منفصلة عن السياق..فلا يقدم حلاً حقيقياً، لأنه يعرف أن حلاً كهذا يسحب منه سطوته.. فالتشدد لايريد فعلياً حل مشاكل المرأة، لأنها جزء من مشروعه للسيطرة..وكلما اقتربت المرأة من الاستقلالية، ابتعد هو عن سلطته.
وفي النهاية أحب أن أقول:
إن خطاب التشدد خطاب سلطوي لاإصلاحي. هدفه السيطرة لا التغيير، الإقصاء لا التعدد، الفرض لا الحوار..إنه خطاب أحادي النظرة، لا يقبل الآخر، ولايعترف بالاختلاف، ولايستطيع التعايش مع منطق العقل أو متطلبات الواقع. ومثل هذا الخطاب لايمكن تفكيكه بالحوار وحده، بل بالوعي المجتمعي الرافض له، وبكشف تناقضاته، وبإعادة الاعتبار لإنسانية الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، ليحيا بكرامة ويشارك في بناء مجتمع متوازن عادل.