الأمير محمد بن سلمان يخطّ مستقبل السعودية في مجلس الشورى
الأمير محمد بن سلمان يخطّ مستقبل السعودية في مجلس الشورى

جاء خطاب سمو سيدي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، أمام مجلس الشورى كتجسيد حي لمرحلة نضج متقدمة في مسيرة التحول الوطني..لم يكن الخطاب مناسبة بروتوكولية تقليدية،
ولااستعراضاً للإنجازات وحسب، بل كان إعلاناً واضحاً عن وعي القيادة العميق بمكانة المملكة الراهنة، وما تحقق على أرض الواقع، والتحديات التي ما تزال قائمة، وما يتطلبه المستقبل من خطوات.
ماميّز هذا الخطاب هو اتزانه في الطرح، وصدقه في المضمون، وجرأته في المصارحة.. لقد تحدث عن الإنجازات بموضوعية، وأقرّ بوجود التحديات دون إخفاء أو مواربة، مقدماً رؤية واضحة تعكس أن المملكة سائرة على خطى ثابتة نحو مستقبل مشرق يتسم بالثقة والتصميم.
منذ بدايته، أعاد الخطاب التذكير بالجذور التاريخية للدولة السعودية، القائمة على قيم الشريعة الإسلامية والعدالة وخدمة الحرمين الشريفين.. وكان ذلك بمثابة تأكيد على أن النهضة التي نشهدها اليوم ليست قطيعة مع الماضي، وإنما امتداد له وتطوير لروحه وأصالته..هذا الاستحضار للتاريخ لم يكن هدفه التفاخر المجرد، بل تقديم قاعدة متينة ومرجعية حضارية تنطلق منها الرؤية الوطنية لتواكب العصر بأدواته الحديثة وإمكاناته المتسارعة.
وشكّل الجانب الاقتصادي محوراً أساسياً في الخطاب، حيث استعرض سموه التحولات العميقة في بنية الاقتصاد الوطني، مشيراً إلى أن إسهام الإيرادات غير النفطية تجاوز نصف الناتج المحلي.
لم يكن هذا رقماً عابراً، بل إشارة قوية إلى أن الاقتصاد السعودي تخلّص من الاعتماد الكامل على النفط، وأضحى أكثر تنوعاً واستدامة..كما أن نجاح المملكة في استقطاب مئات الشركات العالمية يعكس أنها أصبحت وجهة استثمارية جاذبة، بفضل الإصلاحات الهيكلية والأنظمة الإدارية المتطورة التي عززت ثقة المستثمرين العالميين.
أما في الجانب التقني والابتكار، فقد أكد الخطاب استعداد المملكة لتكون مركزاً عالمياً في الذكاء الاصطناعي، وهو دليل واضح على التحول نحو اقتصاد معرفي قائم على العلم والابتكار والبحث..وعزز ذلك أيضاً ماتحقق في قطاع الصناعة الدفاعية، حيث ارتفعت مستويات التوطين بشكل لافت، في خطوة استراتيجية تُظهر أن مفهوم السيادة لم يعد محصوراً بالقرار السياسي وحده، بل امتد ليشمل القدرة الصناعية والإنتاجية للدولة.
ولم يكن البعد الاجتماعي بعيداً عن الخطاب، بل أكّد سموه أن المواطن هو محور الرؤية وأساس نجاحها..الإنجازات في مجالات خفض البطالة، وزيادة مشاركة المرأة، وتحسين جودة الحياة، لم تُعرض كأرقام جامدة، وإنما كتحولات واقعية أثّرت بشكل مباشر في حياة السعوديين. كما أن الحديث بكل شفافية عن أزمة الإسكان، وطرح سياسات عملية لإعادة التوازن إلى السوق، عكس وعياً وواقعية، وإرادة لمعالجة المشكلات من جذورها، لامجرد التغطية عليها.
وتجلت كذلك في الخطاب عقلية إدارية مرنة حين أكد أن المصلحة العامة هي البوصلة، وأن الدولة لن تتردد في تعديل أو إلغاء أي مسار يتضح أنه غير مجدٍ، في إشارة إلى إدارة بعيدة عن الجمود، تعتمد المراجعة المستمرة والمحاسبة الجادة.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد حمل الخطاب رسائل إنسانية وأخلاقية رفيعة عبر إدانة العدوان على غزة، وتأكيد الدعم الثابت للقضية الفلسطينية..كما جدد التشديد على أن مبادرة السلام العربية لاتزال الأساس العادل لأي تسوية عادلة وشاملة. وفي الوقت ذاته، عبّر عن دعم المملكة للأشقاء في قطر، مما يعكس روح التعاون الإقليمي ووحدة المواقف الخليجية.
ولم تقتصر مقاربة الخطاب لمكانة المملكة الدولية على الفخر أو التباهي، بل جاءت لتؤكد على دورها كقوة سياسية فاعلة لاتكتفي بالدفاع عن مصالحها الوطنية، بل تشارك في صياغة التوافقات الإقليمية والدولية، وتسهم في إرساء دعائم الاستقرار في المنطقة والعالم.
كما سلط الخطاب الضوء في ختامه على دور مجلس الشورى المحوري في تطوير الأنظمة والتشريعات بما يتناسب مع حجم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها المملكة، مؤكداً أهمية أن يسير البناء المؤسسي جنباً إلى جنب مع الإنجازات التنموية ليشكلان معاً منظومة متكاملة تدعم المسيرة.
لقد كان الخطاب، في مجمله، تجسيداً لروح المرحلة التي تعيشها المملكة؛ مرحلة زاخرة بالمنجزات، لكنها واعية لحجم التحديات، ومسلحة بالثقة والواقعية..إنه خطاب يطمئن الداخل، ويخاطب الخارج، ويرسم لوحة متكاملة لمستقبل سعودي أكثر ازدهاراً وتماسكاً..خطاب لم يكن حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل وثيقة سياسية واقتصادية واجتماعية تُسطر بداية فصل جديد من تاريخ المملكة، فصل يكتبه الأمير محمد بن سلمان بأدوات العصر وبتجذر عميق في روح أصيلة ضاربة بجذورها في التاريخ.