تماسك الخليج العربي واجب وطني
تماسك الخليج العربي واجب وطني

منذ أن اجتاح صدام حسين دولة الكويت الشقيقة في صيف عام 1990، تغيرت ملامح الخليج العربي إلى الأبد..لم يكن ذلك الغزو مجرد حدث عسكري عابر، بل كان شرارة أشعلت سلسلة من التوترات والصراعات ما زالت آثارها ماثلة حتى اليوم.
لقد فتح الباب لتدخلات خارجية متزايدة، وأعاد تشكيل التحالفات الإقليمية، وزرع بذور الشك والخوف في قلب كل دولة خليجية..ففي وقت كان يُنظر فيه إلى المنطقة بوصفها واحة للاستقرار النسبي، تحولت فجأة إلى ساحة مفتوحة لصراعات ونزاعات معقدة.
ذلك الغزو الغاشم للكويت لم يكن اعتداءً على سيادة دولة فحسب، بل كان استهدافاً مباشراً لفكرة الأمن الجماعي الخليجي.. لقد فضح هشاشة التوازنات القائمة آنذاك، وأظهر أن الطموحات الفردية إذا انفلتت يمكن أن تُطيح بما تراكم من ثقة وتعاون. وحتى بعد تحرير الكويت، لم تعد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 1990؛ بل دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الحذر والتوجس. كل دولة أعادت حساباتها الأمنية والدفاعية والسياسية، وعُدت أولوياتها الداخلية والخارجية بما يتناسب مع واقع جديد لايحتمل الغفلة.
ثم جاء الإرهاب، ممثلاً في الفكر الذي تبناه الارهابي أسامة بن لادن وتنظيماته، ليزيد المشهد تعقيداً..الإرهاب الذي اجتاح العالم مع مطلع الألفية لم يكن خطراً خارجياً فقط، بل امتدت جذوره إلى الداخل، تاركاً بصماته السلبية العميقة على المجتمعات الخليجية..لقد شوه صورة المنطقة دولياً وألصق بها تهمة التطرف، رغم أن دول الخليج العربي كانت من أكثر الدول تضرراً من هذا الفكر، ومن أشدها عزماً على محاربته وتجفيف منابعه. ومع ذلك، استُغلت تلك الموجة لتبرير ضغوط وتدخلات خارجية تحت شعار مكافحة الإرهاب، بينما كانت بعض القوى الطامعة تسعى في الحقيقة إلى فرض أجنداتها الخاصة.
وفي خضم هذه التحولات، برزت إيران كلاعب إقليمي يطمع في بسط نفوذه على المنطقة، مستخدمة حزمة من الأدوات تبدأ بالميليشيات، ولاتنتهي بالخطاب الطائفي. تدخلاتها لم تكن مجرد دعم سياسي لبعض الجماعات، بل مشروعاً متكاملاً يستهدف زعزعة استقرار الخليج، وتقويض أنظمته، وبث الفتن داخل مجتمعاته. ومن العراق إلى اليمن، ومن لبنان إلى البحرين، بدت بصمات إيران واضحة لاتخطئها العين، وغايتها واحدة.. إضعاف دول الخليج العربي وتشتيت قواها، وتعطيل مسيرتها التنموية.
ورغم كل هذه التحديات المركبة، أثبتت دول الخليج العربي أنها قادرة على الصمود والتماسك. فقد واجهت الغزو، وتصدت للإرهاب، ووقفت أمام التدخلات الخارجية، وحافظت على حد كبير من وحدتها وتضامنها..غير أن التهديدات لم تنقطع، بل أخذت أشكالاً جديدة، وهو مايفرض وعياً متجدداً لدى شعوب الخليج العربي بحجم الاستهداف وخطورته. فالنمو الاقتصادي المتنوع، والبنية التحتية الحديثة، والمجتمعات النابضة بالحياة التي حققتها دول الخليج، لم ترُق للكثيرين، بل أثارت حسدهم وأشعلت محاولاتهم للنيل منها.
إن الاستهداف لم يعد سياسياً أو أمنياً فقط، بل امتد ليطال الهوية والثقافة، في محاولة لتشويه صورة الإنسان الخليجي وإظهاره بصورة نمطية مشوهة لاتعكس واقعه الحقيقي..من هنا يتضح أن التماسك الداخلي، والوعي الشعبي، والتكاتف المؤسسي والمجتمعي، لم تعد خيارات تكميلية، بل ضرورات وجودية..فكلما قويت الجبهة الداخلية، ضعفت محاولات الخارج لاختراقها..وكلما ارتفع منسوب الوعي، انحسرت فرص الخصوم في النفوذ أو التأثير.
اليوم تقف دول الخليج العربي أمام مفترق طرق مصيري: فإما أن تواصل المسير في طريق التقدم والتنمية بروح الوحدة والتكاتف، وإما أن تسمح للتدخلات بأن تزرع بذور الانقسام والريبة. والخيار في الحقيقة واضح، والمسؤولية مشتركة بين القيادة والشعوب، وبين الحكومات والمجتمعات.. فالشعوب ليست جماهير متفرجة، بل هي شريك أصيل في صناعة المستقبل، وحارس للهوية، وسند للقيادة. فما تحقق حتى الآن ليس يسيراً، لكنه سيظل مهدداً إن لم يُصن بالوعي ويُدعّم بالتماسك.
إن ما شهده الماضي من غزو وإرهاب وتدخلات خارجية يجب أن يُؤخذ كدرس راسخ، لاكجرح يُستغل. فالتاريخ لايرحم من يكرر أخطاءه، ولايمنح فرصاً كثيرة لمن يفرط في حماية وطنه. والخليج العربي، بما يملكه من إمكانات بشرية واقتصادية وثقافية، جدير بأن يكون نموذجاً للاستقرار والنهضة، لاساحة للفوضى والصراعات. ولن يتحقق ذلك إلا بإدراك الجميع أن التماسك هو السلاح الأقوى، والوحدة هي حصن الخليج العربي الذي لايُخترق.