تنظيم لاتشدد
تنظيم لاتشدد

منذ بزوغ فجر الإسلام، كانت المساجد رمزاً للسكينة والطمأنينة، يتوافد إليها المصلون في خشوع، حيث يُتلى القرآن بصوت هادئ داخل الجدران دون مكبرات أو أجهزة تنقل الصوت للخارج.
كان الحضور الجسدي هو السبيل الوحيد لسماع التلاوة والتأثر بها، فلم تعرف المساجد الضجيج الصوتي إلا مع دخول التقنيات الحديثة ومكبرات الصوت، التي رغم نواياها الطيبة أوجدت فوضى أزعجت القريب والبعيد، وأثارت جدلاً حول حدود استخدامها.
جاء قرار وزارة الشؤون الإسلامية بقصر استخدام مكبرات الصوت الخارجية على رفع الأذان والإقامة ليكون، بحق، ثمرة دراسة متأنية مستندة إلى نصوص نبوية وآراء كبار العلماء في المملكة..فقد أدرك هؤلاء أن الهدف من رفع الصوت في المساجد هو إعلام الناس بدخول الوقت، لابث تفاصيل الصلاة والخطب لمن هم خارج المسجد؛ فالأذان شعيرة إعلامية، والإقامة تنبيه للمصلين، أما القراءة والخطب والدعاء فهي لمن حضر فقط، لا لمن في المنازل المجاورة أو المارة بجانب المسجد.
لقد عانى الكثيرون من فوضى مكبرات الصوت؛ أطفال حُرموا من النوم، ومرضى فقدوا راحتهم، وكبار سن أرهقهم الأنين الليلي..فإذا جاء وقت الفجر، انطلقت الأجهزة بقراءة مطولة لاتراعي ظروف الجوار، وهذه، في حقيقتها، ليست عبادة بل إيذاء نهى الشرع عنه صراحة وقد ذكر لي شخصياً الكثير من الناس ان اطفالهم او مرضاهم لايستطيعون النوم بسبب اصوات المكبرات القوية من المساجد..مع ذلك يستمر بعض المتشددين ممن تأثروا بأفكار الصحوة في رفض التنظيم، مطالبين ببلوغ الصوت لكل بيت، وكأنهم أوصياء على عبادات غيرهم،
وجاء القرار الوزاري لينظم العبادة ويعيد للمساجد هيبتها ويحقق التوازن بين أداء الشعائر واحترام خصوصية الآخرين.
لقد تصدى معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، لحملات التشويه بصلابة مؤكداً أن التنظيم يصب في المصلحة العامة ويرفع الحرج عن الناس، ويحقق مقاصد الشريعة..لم تكن المواجهة سهلة فالتصدي للتيارات المتشددة دائماً محفوف بالصعوبات، لكن الدين يدعو إلى الرفق ومراعاة الظروف، وليس إلى فرض الرؤى بالقوة.
لابد من إدراك أن رفع الصوت ليس معياراً للتقوى، وإنما قد ينفر الناس إذا تحول للصخب والإزعاج..فالإسلام رحمة، والمساجد بيوت الله أُسست للطمأنينة، لاللصخب؛ وقد نهى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام عن رفع القراءة بطريقة تزعج من في المسجد، فكيف بمن بالخارج؟
لذلك ينبغي مراعاة أحوال الجميع واحترام حقهم في الراحة.
لقد أعاد القرار الأمور إلى نصابها، وعالج فوضى سنوات بقرارات حكيمة أيدها كبار العلماء، مؤكدين أن التنظيم جوهر الدين والفوضى لاتتفق مع روح الإسلام..وقد آن الأوان لنميز بين الشعائر والعادات، ونستعيد دور المساجد الحقيقي بعيداً عن المزايدة الصوتية والتنافس في استخدام المكبرات.
في الختام، الالتزام بهذا القرار ليس فقط طاعة لولي الأمر، بل هو أيضاً التزام بأخلاقيات ديننا، وحرص على راحة المجتمع وتقدير لظروف الجميع..من أراد سماع التلاوة فالمسجد مفتوح، أما من بقي في بيته فله الاختيار، ولايجوز لأحد أن يفرض عليه ما لايطيق؛ فالدين لايُفرض بالصوت، بل يُحب بالرحمة، ويُحتضن بالرفق، ويُمارس بالسكينة.