وهم الوهابية

وهم الوهابية

في تاريخ المملكة العربية السعودية ترددت عبر السنوات مصطلحات لاتعكس الواقع الحقيقي بل تُسقط عليه ظلالاً من فهم خارجي متسرع..من بينها مصطلح (الوهابية) الذي تناقلته مراكز فكر وصحف ومراقبون وكأنما هو عنوان لمذهب واضح أو حركة قائمة بذاتها داخل المجتمع السعودي..لكن من يعرف الداخل السعودي عن كثب يدرك تماماً أن هذا المصطلح لاوجود له في الخطاب اليومي ولا في المنظومة التعليمية أو الشرعية.. إنه ليس تعريفاً دينياً مُعترفاً به ولا مدرسة فقهية منصوصاً عليها ولا تياراً منظماً يحمل هذا الاسم..بل هو تركيب لغوي نشأ خارج البلاد ثم عُكس على سياق محلي لايُشبهه ولا يعبرعنه بدقة.
الواقع السعودي أبعد ما يكون عن هذا التوصيف المُختزل..فالمملكة العربية السعودية ليست دولة قائمة على فكر أيديولوجي ضيق أو مذهب واحد مهيمن.. بل هي مجتمع مسلم يتنوع ضمن إطار الإسلام السني الواسع تعيش فيه المدارس الفقهية الأربع جنباً إلى جنب بتناغم ويُمارس الفقه بعقل يعتمد على التيسير والتدرج وفهم المقاصد الشرعية فالمذاهب الحنبلية والمالكية والشافعية والحنفية كلها موجودة وحية ويتم التعامل مع إختلافاتها كرحمة وتنوع
لاكفرقة وانقسام.. وعلماء المملكة يُحتَرمون بكونهم فقهاء راسخين في العلم لاممثلين لتيارات مذهبية معينة كما أن مجلس الإفتاء يُدار بروح المؤسسية التي تجمع ولا تُفرّق..فلو كان هناك فكر باسم (الوهابية) لظهر في اللوائح والقرارات الرسمية ولرأيناه في المدارس والجامعات والمناهج التعليمية لكن غيابه التام يؤكد أنه مجرد مصطلح مستورد لاوصف دقيق لحقيقة الواقع الديني والفكري في المملكة.
وإذا نظرنا إلى تأسيس الدولة السعودية الأولى ندرك أنها لم تكن ثمرة دعوة مذهبية بحتة بل نتيجة تحالف اجتماعي واقتصادي وسياسي أوسع..فالأسرة السعودية قبل إنشاء الدولة أسست الدرعية وهي بلدة بدأت من الصفر في منطقة كانت تعيش الصراع والتفكك..اختارت القيادة حينها أن تُوظّف القوة لصنع الاستقرار
لاللهيمنة..فأقامت شراكات مع القبائل والعلماء وحماة الطرق وغيّرت واقع المنطقة من ساحة اقتتال وفوضى إلى مركز تجارة ونظام وحكم رشيد..هذه لم تكن حركة فكرية تسعى للإنتشار العقائدي الأيديولوجي بل مشروع حكم طموح يستند إلى توحيد المصالح وخلق بنية اجتماعية وسياسية متماسكة وسط بيئة كانت تنهشها الفوضى والتشرذم.
ولم يكن الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في تلك المرحلة إلا واحداً من بين شخصيات عديدة انخرطت في هذا المشروع التوحيدي.. لم يتصدر المشهد وحده ولم يُنسب إليه مشروع الدولة بشكل حصري، بل كان شريكاً فاعلاً بين شركاء كثر ساهم بعلمه وفكره ضمن منظومة واسعة دون أن يتم تحويله إلى رمز أيديولوجي أو زعيم روحي لحركة دينية مستقلة.
فلو كانت هناك نية لخلق مذهب جديد يحمل هذا الاسم لصيغت له قواعد وأُنشئت له مؤسسات تعليمية ودعوية خاصة ولرأينا له إنتاجاً فكرياً منظّماً يحمل اسماً واضحاً ومحدداً..ولكن ماحدث كان ببساطة التقاء الرؤية السياسية الطموحة مع الفكر الديني الصحيح في سبيل بناء كيان يتجاوز الانقسام وليس تأسيس إتجاه فكري مغلق أو مذهب جديد.
المملكة العربية السعودية اليوم تقدم نفسها كما هي دولة حديثة تؤمن بالإسلام وتُطبّق قيمه السامية عبر مؤسسات وطنية راسخة، لاعبر تيارات أيديولوجية ضيقة أو تنظيمات خاصة. الانتماء فيها هو للوطن بأسره، لا لمدرسة فقهية بعينها أو جماعة محددة..والانخراط في العمل العام لا يُشترط له ولاء فقهي معين بل الكفاءة والأهلية والقدرة على خدمة الوطن..المواطنون يُعاملون بحسب نظام واضح يضع الاستقرار والوحدة فوق التصنيفات المذهبية، ويُراعي الواقع قبل الأحكام المجردة..لاتوجد في المملكة حركة دينية تُدار تحت مسمى معين ولا يُمنح لقب أو مكانة لأي أحد استنادًا إلى فكر خارجي أو تسمية مستوردة.. وإنما يعيش الناس دينهم كما هو في سعة الفقه الإسلامي المعتدل وتحت مظلة الدولة التي تحكم بالشريعة وفق روح العصر وضرورات المجتمع.
المصطلح إذاً لا يُمثل حقيقة واقعية بل يُعاد تدويره كتصور نمطي مسبق لايعبّر عن واقع المجتمع السعودي بتعقيده وتنوعه الديني والفكري ولو طُرحت أسئلة جادة للداخل السعودي، لكان الجواب واضحاً وصريحاً: لا أحد يعرف شيئاً اسمه (الوهابية) لا في المحاكم الشرعية، ولا في الوزارات الحكومية، ولا في المساجد أو المجالس اليومية..إنها كلمة تتكرر كثيراً خارج المملكة وتغيب تماماً داخلها بين الناس الذين ينتمون إلى الإسلام بصفته ديناً جامعاً وشاملاً لا تياراً خاصاً أو مذهباً منفصلاً.
لهذا فإن الحديث عن المملكة من خلال هذا المنظور الضيق لايُفيد في فهمها الحقيقي، بل يُشوّش على صورتها الواقعية الأصيلة.. فالدولة السعودية تقوم على التنوع داخل الوحدة وعلى احترام المذاهب الفقهية المختلفة ضمن الإطار الأوسع للفقه الإسلامي وعلى إدراك أن الاختلاف في الرأي الفقهي ليس تهديداً بل مصدر غنى وتنوع يعزز من قوة المجتمع.. فحين تتولى الوزارات شخصيات من خلفيات فكرية وفقهية متعددة، وتُدار الجامعات من علماء ينتمون لمذاهب مختلفة، يصبح من العبث الحديث عن اتجاه أحادي مهيمن أو مذهب خاص يحكم الدولة.
السعودية لم تتأسس لتُصدّر أيديولوجيا معينة للعالم بل لتبني وطناً قوياً يضم الجميع تحت رايته، ويقودهم عبر مشروع تنموي شامل يتجاوز الإنتماءات الضيقة نحو تحقيق المصلحة العامة والازدهار الشامل..وإذا استمر البعض في استخدام هذه التسميات المغلوطة، فإنهم يُعيدون إنتاج فهم قديم لم يعد صالحاً اليوم في ظل المتغيرات التي تشهدها المملكة..فالمملكة في مرحلتها الجديدة تضع الإنسان في قلب المعادلة التنموية وتُعيد ترتيب العلاقة بين الدين والدولة عبر رؤية عقلانية متوازنة لا دعوية حزبية..
ومايُصوّره البعض على أنه مذهب أو تيار هو في الحقيقة مجرد اجتهادات فقهية طبيعية موجودة داخل أي مجتمع مسلم حيوي.
أما (الوهابية) فهي اسم يرد كثيراً خارج المملكة، ويغيب تماماً داخلها، مما يؤكد أنها مجرد وصم لا أساس له من الصحة في الواقع السعودي.

فهد الحربي

مدون وناشط سياسي واجتماعي (من قال أن الحب لايليق لهذا الزمان؟ الحب يليق بكل زمان ومكان لكنه لايليق بكل أنسان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *