الميليشيات خنجر في خاصرة الدولة

الميليشيات خنجر في خاصرة الدولة

في أقصى جنوب الذاكرة، حيث تتعانق العزلة مع الصبر، تقف غزة لا كمدينة عادية، بل كصرخة معلقة في فضاء رمادي، لايكاد يسمعها أحد..لا شيء فيها يشبه السكون حتى الهواء يحمل نبرة حزينة، والأرض تسير بثقل تحت أقدام وجوه أنهكتها الحياة لا الحرب وحدها.
غزة هذه البقعة المكلومة، لم تكتفِ بالألم الذي يأتيها من الخارج، بل تكالبت عليها قوى الداخل أيضًا، حين اختطفت ميليشيا مسلحة حلم الناس، وساقتهم إلى أقدار لم يختاروها بأنفسهم. هذه الميليشيا، التي تحمل شعار (حماس) تجاوزت حدود العمل السياسي المتعارف عليه، وتحولت إلى سلطة مفروضة، تعيش خارج منطق المؤسسات، وتتصرف كمن يملك الأرض ومن عليها، لا كمن يخدمها أو يرعى مصالح أهلها.
إن الجوع الذي يجتاح غزة ليس فقط نتيجة حصار مفروض من الخارج، بل هو أيضًا نتيجة تحكم داخلي يمارسه من لايملك الشرعية الشعبية الحقيقية..الناس هناك يُمنعون من حقهم الأساسي في الحياة الكريمة باسم الولاء الزائف، وتُحجب عنهم أدوات العيش الكريم إذا لم يخضعوا لسلطة الأمر الواقع المفروضة بقوة السلاح..ولأن القرار لاينبع من شعب اختار بحرية بل من تنظيم فرض نفسه بقوة البندقية أصبح القتل والجوع مشهدين يوميين يمرّان أمام الجميع كما لو أنهما قدر محتوم لا فكاك منه.
الميليشيات ليست ظواهر طبيعية في المجتمعات المتمدنة.. بل هي أعراض خطيرة للفوضى، وعلامات واضحة على غياب الاستقرار، وتهديد مباشر لمفهوم الدولة ذاته..إذ إنها لاتؤمن بالوطن كمفهوم جامع لكل أبنائه بل تراه مجرد مساحة لنفوذها الخاص..تتعامل مع الناس كأتباع يجب أن ينصاعوا لأوامرها
لاكمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. تختزل كل قراراتها في رغبات قادتها الضيقة
لافي المصالح العليا للمجتمع بأكمله..في ظل وجود هذه الكيانات المسلحة يضيع صوت الناس، ويصبح التعبير عن الرأي ضربًا من ضروب المخاطرة المحدقة ويتحول الوطن إلى شظايا أفكار متنازعة وتستبدل السلطة المؤسسية الشرعية بالسلطة الميدانية التي تسيّر الحياة وفقًا لميزان القوة العسكرية وليس ميزان العدالة والقانون.
لكن في المقابل، تظل الحكومات المنتخبة هي الجهة الشرعية الوحيدة المخولة بتحديد مصير الشعوب ورسم مستقبلها..ذلك لأنها تعمل عبر مؤسسات واضحة تخضع للمراجعة والمساءلة الدورية وتسير وفق قوانين وأطر وطنية تُصاغ بمشاركة الشعب نفسه.
إن وجود حكومة واحدة موحدة، تتحدث بإسم الجميع وتسعى بصدق لتحقيق المصالح العامة، هو ما يمنح الأوطان حصانتها، ويصون قرارها من التشتت والانقسام والتأثر بالولاءات الضيقة.
غزة اليوم ليست بحاجة إلى شعارات جديدة، بل إلى خروج حقيقي من مأزق الميليشيا إلى واقع تُدار فيه الأمور ضمن نظام سياسي يعكس إرادة الناس الحرة لارغبة التنظيمات المسلحة. فالحياة لاتُدار بالبندقية أو التهديد بل بالحوار البناء، بالبرامج التنموية، وبالمؤسسات التي تبني الأوطان لا تهدمها..الحكم ليس مشروعًا فرديًا أو تنظيميًا خاصًا، بل هو مسؤولية وطنية جسيمة تُمارس تحت سقف الدستور والقانون. وحين تتغول الميليشيات على هذا السقف، فإنها تهدمه من أساسه، لتبني سقفًا ضيقًا لا يسع أحدًا سوى المنتسبين إليها وأنصارها.
في غزة، يمشي الناس بين حُلمين كبيرين: حلم التحرر من الاحتلال الخارجي، وحلم التحرر من سلطة لاتعبّر عنهم داخليًا وهم يستحقون أكثر من ذلك.. يستحقون أن يُسمع صوتهم بوضوح، وأن يُعاد لهم قرارهم المصيري وأن يُمنحوا فرصة حقيقية للحياة الكريمة ضمن إطارٍ وطني يليق بتضحياتهم الجسيمة.
إن الميليشيا ليست طريقًا للاستقلال الحقيقي أو التحرر بل هي طريق لمزيد من العزلة والانغلاق على الذات وكلما طال وجودها خارج مؤسسات الدولة الشرعية طال معها زمن الغياب وزمن الانتظار وزمن النكبة التي لا تنتهي..ولا خلاص لغزة وشعبها إلا بإعادة بناء سلطة تستند إلى الشرعية الشعبية وتعمل من أجل الوطن بأسره لا من أجل تنظيم معين أو فئة ضيقة.

فهد الحربي

مدون وناشط سياسي واجتماعي (من قال أن الحب لايليق لهذا الزمان؟ الحب يليق بكل زمان ومكان لكنه لايليق بكل أنسان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *