قطبية الفكر…شرارة التكفير
قطبية الفكر...شرارة التكفير

في السجال الفكري الراهن، لم يكن الجدل حول المدعو سيد قطب نابعًا من خصومة شخصية أو تصفية حسابات ضيقة، فالرجل قد مضى إلى ربه وأمره إليه.
وإنما جاء التحذير من فكره حين تحوّل إلى مرجعية مقدسة عند بعض الجماعات، وتحوّل أتباعه من قراء متفحصين إلى مقلدين يَنزّلون أفكاره منزلة الحق المطلق، ويُنافحون عنه وكأنه فوق النقد والتمحيص.
. لقد غدا فكر سيد قطب، لا شخصه، قضية تشغل الساحة الدعوية والفكرية، لما خلفه من تأثير عميق على تشكيل ذهنية الشباب وتأجيج مشاعرهم، وتوجيههم نحو تصورات وأحكام جذرية في فهم الدين، والمجتمع، والسياسة، غالبًا ما تتسم بالتطرف والغلو.
. إن النظر المتأني في كتابات سيد قطب، لا سيما في (في ظلال القرآن) و(معالم في الطريق) يكشف عن توجهات واضحة نحو التكفير وتغليظ الأحكام، وتبني نظرة سوداوية للمجتمع ترى فيه الجاهلية قائمة، لا تستثني حتى المجتمعات التي تدين بالإسلام.
هذا التصور المنحرف وجد طريقه إلى قلوب شباب غاضب عطش إلى التغيير، فغذاه فكر قطب بلغة مشتعلة وتفسيرات ذاتية للنصوص الشرعية، بعيدًا عن منهج أهل العلم الراسخ والضبط الفقهي الدقيق.
لم يكن قطب عالمًا شرعيًا مؤصلاً، بل كاتبًا صاغ آراءه الشخصية وأطلق أحكامًا كبرى في العقيدة والسياسة دون خلفية علمية متينة تؤهله لذلك.
وليس غريبًا أن ترى غالبية من تبنوا الفكر التكفيري والمنهج الحركي الثوري يرفعون كتب المدعو سيد قطب فوق رؤوسهم ويستشهدون بها في تكوين قناعاتهم ومواقفهم..فقد تحوّلت أفكاره من مجرد اجتهادات شخصية إلى خطاب دعوي مُغرض يُغرس في المحاضن التربوية المتشددة ويتناقل في المجالس وكأنها كلام لا يُرد عليه أو يُناقش.
وهذه الإشكالية لم تكن لتأخذ هذا الحجم المبالغ فيه لولا أن فكر قطب وجد من يروّج له ويُقدّسه ويُحرّم نقده بل يعتبر أيّ تفنيد له بمثابة عداء للدعوة ذاتها.
أحد أبرز مواطن الخلل في هذا الفكر هو تجاوزه الواضح لمذهب أهل السنة والجماعة في مسائل الإيمان والأسماء والصفات، وتعاملاته غير المنصفة مع الصحابة الكرام، إذ أطلق عبارات فيها طعن وتفسيرات تقوض المرويات المستقرة والمتفق عليها..بل إن قطب فسر القرآن الكريم برأيه، واستنبط منه ما يخدم رؤيته الخاصة للواقع السياسي والاجتماعي، بعيدًا عن منهج السلف الصالح الذي يقدم النقل الصحيح على العقل البشري، والعلم الموثق على مجرد الشعور أو العاطفة.
من هذا المنطلق، لم يكن التحذير من فكر سيد قطب إساءة لشخصه أو انتقاصًا منه، بل هو تحصين ضروري للشباب من الانجراف وراء التصورات الحزبية التي غلبت عليها العاطفة، وشحنتها الانفعالات، فحوّلت الدعوة الإسلامية إلى معركة، والفقه الشرعي إلى مجرد شعارات حماسية، والولاء والبراء إلى سيف يُرفع على المجتمع، والعلماء، والحكام دون تروٍّ أو ميزان شرعي صحيح.
وقد تسبب هذا الفكر في زعزعة أمن المجتمعات، وتشويه صورة الإسلام المعتدل السمحة، وتبرير الإرهاب، وتقويض العمل الخيري والدعوي السليم تحت دعاوى الجهاد والتغيير السياسي المسلح.
ولو لم يُروّج لهذا الفكر ولم يُقدّس صاحبه، لظل رأيًا كغيره يُناقش ويُرد عليه دون أن يُحدث فتنة أو انقسامًا..لكن حين يتغلغل الفكر المتشدد ويُقدم على أنه المنهج الأصيل للدين، تتحول الساحة الفكرية إلى بؤرة صراع، وتُفرز أجيالًا ترفض التسامح وتعيش على فكرة الثورة المستمرة والتغيير القسري.
وهنا كان لا بد من التبيين والإنصاف لاخصومة ولا تجريح بل انطلاقًا من مسؤولية شرعية وفكرية تحمي الدين من التحريف، وتحفظ الدعوة من التخريب، وتصون الشباب من الوقوع في حبائل الغلو والانحراف.
. المسؤولية اليوم تقع على عاتق أهل العلم والمربين لإعادة ضبط المسار، وتقديم منهج يربي على العلم الشرعي الأصيل والحكمة، لا على التقديس الأعمى والانفعال غير المبرر. فالدين لا يبنى على الأسماء والأشخاص، بل على الأصول الثابتة من الكتاب والسنة..والفكرلا يُختار بالعاطفة، بل بالضوابط والمعايير العلمية..وحين يُعاد النظر في التراث الفكري بروح نقدية متزنة، دون تقديس لأحد أو تهجّم غير مبرر، ينفتح الباب أمام الإصلاح الحقيقي، الذي يُبنى فيه الفهم الصحيح للدين، وتُحمى فيه المجتمعات من الانزلاق خلف الشعارات الهدامة، وتُسترد فيه صورة الإسلام كما أرادها الله رحمة للعالمين وعدلاً ووسطية.