كيف نحمي العقول كما نحمي الحدود؟

كيف نحمي العقول كما نحمي الحدود؟

في زمنٍ أصبحت فيه الحياة معلقة على شعرة من الأمان، وتحوّلت فيه براءة الأرواح إلى مشاهد تتكرر بلا توقف على شاشات الأخبار، يبدو أن مسألة مكافحة الإرهاب لم تعد خيارًا سياسيًا أو قرارًا أمنيًا فحسب، بل غدت واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا، ومطلبًا وجوديًا لكل من يؤمن بأن للإنسان حقًا أصيلًا في الحياة، مهما اختلفت هويته أو معتقداته أو حدود وطنه.

إن الإرهاب لم يعد ظاهرة محلية تنحصر في جغرافيا معينة أو ثقافة محددة، بل أصبح شبحًا كونيًا يطوف العالم، يتسلل إلى العقول قبل أن يستقر في الأفعال، ويزرع الموت والدمار في الأرض تحت رايات وشعارات زائفة ومضللة.

لم يعد من المقبول التذرع بالفقر أو البطالة أو قضايا العدالة الإنسانية لتبرير إزهاق الأرواح البريئة.. فالقضية أعمق من ذلك وأبشع بكثير الذين يتكلمون عن فلسطين وهم يقتلون الأبرياء في العواصم لا يعرفون شيئًا عن فلسطين ولاعن الحق والعدل؛ بل يستخدمون هذه القضية كستار يخفي وجوهًا تكره الحياة وتنشد الخراب.

المشهد بات واضحًا الإرهابي نفسه ليس نهاية المطاف بل هو نتيجة..بل هو في كثير من الأحيان ضحية أخرى وإن كانت تحمل السلاح وتزرع الفزع..لكن خلفه يقف المحرض الحقيقي ذاك الذي لا يضغط الزناد بيده بل يزرع الفكر المتطرف ويوجه الغضب ويحول الأحلام إلى كوابيس..إنه بمثابة مصنع فكري يعمل دون توقف يخرج من بين جدرانه شبابًا تائهين لم يجدوا في الحياة معنى ولا في المستقبل فرصة حقيقية.

هنا يكمن التحدي الأصيل فالمعركة يجب ألا تقتصر على مواجهة من يحمل المتفجرات بل أن تمتد لتشمل من يعبئ العقول وينفث في الأرواح سم الكراهية والعداء.

في ظل هذا المشهد المعقد تصبح المعالجة الأمنية ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها لكن المعالجة الشعبية والمجتمعية أكثر إلحاحًا وفاعلية. فلا يمكن لأجهزة الدولة وحدها أن تحمي المجتمع مهما بلغت قوتها وتطورها فالحماية الحقيقية تنبع من داخل المجتمع نفسه من المواطن الواعي الذي يدرك أن الأمن ليس مهمة الحكومة فقط.. بل مسؤولية جماعية تتشاركها القلوب قبل الأيدي..حين يشعر الإنسان بأن تبليغه عن متطرف لا يقل وطنية عن رفع العلم..حينذاك فقط نستطيع أن نقول إننا نسير في الطريق الصحيح نحو مجتمع آمن ومحصن.

ليست كل الحروب تُخاض بالسلاح فبعضها يبدأ في الفكرة وتشتعل في الوعي وتنتهي بانتصار الحياة على العبث.

الحرب على الإرهاب هي من تلك الحروب التي تتطلب أن نتجاوز النظرة التقليدية للأمن وأن ندرك أن الخطر لا يسكن في الألغام والمتفجرات فقط بل في الكلمات التي تزرع الشك والفرقة وفي النظرات التي تبث الانقسام والكراهية وفي الصوت الذي يحوّل الخلاف إلى عداء مستحكم.. هؤلاء الذين يتطرفون لا يسقطون فجأة في براثن الغلو بل يتم دفعهم خطوةً خطوة نحو الهاوية عبر خطاب منمق لكنه ملغّم مشحون بالمظلومية المصطنعة والمبررات المفخخة والنصوص التي تُقتطع من سياقها لتصنع عالمًا لا يشبه الواقع. ولذلك يصبح من الضروري أن ننتبه إلى (المحتوى) ذلك الذي يتسلل إلينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإلى الوعي، وإلى المجالس، ويصنع عالمًا موازيًا يكرّه الإنسان في وطنه، ويغلق أبواب التعايش، ويضع مفاتيح النجاة في يد الفوضى والدمار.

لهذا فإن الحرب على الإرهاب تحتاج إلى جنود من نوع مختلف جنود يحرسون المنصات الرقمية وينقّون الخطاب العام من الشوائب ويعيدون بناء الثقة بين المواطن ومجتمعه. فالكلمة حين تكون صادقة تصبح حصنًا منيعًا وحين تكون مشوّهة تكون خنجرًا مسمومًا..ونحن اليوم أمام تحدٍ جديد (كيف نحمي العقول كما نحمي الحدود؟) وكيف نبني الإنسان فكريًا ونحصّنه قبل أن يتكوّن خطره فعليًا ويتحول إلى تهديد ملموس؟

المملكة العربية السعودية بقيادتها الرشيدة وإدراكًا منها لحجم هذا الخطر الوجودي لم تكتف بالخطاب الرسمي بل وضعت أدوات عملية وفعّالة كرقم البلاغات (990) الذي يتيح لكل مواطن ومقيم أن يكون شريكًا فاعلًا في حماية الوطن الغالي وأن يمارس مسؤوليته دون خوف أو تردد.

إنها رسالة واضحة مفادها أن كل فرد هو خط دفاع وكل بلاغ قد ينقذ روحًا وكل موقف قد يصنع فرقًا جوهريًا.

لكن الأهم من ذلك كله أن ندرك أن الحرب على الإرهاب ليست فقط حرب دول وحكومات بل هي حرب قيم ومبادئ.. إنها معركة على شكل العالم الذي نريده.. عالم يؤمن بالاختلاف ويحتفي بالحياة، ويرفض العنف والتطرف مهما كان مبرره.

المعركة ليست بين الشرق والغرب ولا بين أديان وأفكار متنافسة..بل هي بين من يحب الحياة ويقدرها ومن يكرهها ويرى في الآخر إنسانًا هدفًا يجب القضاء عليه.

علينا ألا ننسى أن الشر لا ينتصر لأنه أقوى بل لأنه يُترك دون مواجهة حاسمة..فحين نقف جميعًا (أفرادًا ومجتمعات حكومات ومؤسسات) ضد كل شكل من أشكال التطرف حينذاك فقط يمكن أن نحلم بغدٍ يُولد فيه الطفل دون خوف ويكبر فيه الشاب دون كراهية وتعيش فيه المدن دون انفجارات.

المطلوب اليوم ليس فقط ردع الإرهاب بل تجفيف منابعه الفكرية وتفكيك خطابه المضلل وإعادة بناء الإنسان من الداخل..هذا الإنسان الذي يريد أن يحب ويأمل ويعيش دون أن يكون هدفًا لرصاصة غادرة أو ضحية لحزام ناسف..المطلوب هو أن نعيد للناس إيمانهم بالحياة ونجعل من الوطن مظلة للأمان والتعايش للجميع لا ساحةً للصراع أو فرصة للدمار.

في نهاية المطاف

إن الحرب على الإرهاب ليست مجرد إجراء أمني روتيني بل هي ثورة على كل ما يُقزّم الإنسان ويُشوّه فطرته السوية..إنها دعوة للعودة إلى معنى الحياة الحقيقي ولإعلاء صوت العقل فوق هدير الكراهية.

فلتكن معركتنا هذه معركة الأمل ضد الظلام ومعركة الإنسان ضد من يحتقر إنسانيته ويهدر كرامته.

فهد الحربي

مدون وناشط سياسي واجتماعي (من قال أن الحب لايليق لهذا الزمان؟ الحب يليق بكل زمان ومكان لكنه لايليق بكل أنسان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *